LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في كلمته بالمبلّغين على أعتاب محرّم الحرام 1446 للهجرة:"
لنحذر من خذلان الشعائر والقضية الحسينيّتين المقدّستين
رمز 46525
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 16 محرّم الحرام 1446 - 23 يوليو 2024

النصّ الكامل، لكلمة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، على أعتاب حلول شهر محرّم الحرام 1446 للهجرة، التي ألقاها بجمع من المبلّغين الدينيين، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، يوم الجمعة المصادف للثامن والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام 1445 للهجرة (5/72024م).

تعريب: علاء الكاظمي

بسم الله الرحمن الرحيم

تعازي

ابتداء، أرفع التعازي إلى المقام الشامخ والرفيع والمنيع، لصاحب الولاية الكبرى، والإمامة الإلهية العظمى، مولانا الإمام بقيّة الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف، بمناسبة حلول أيّام الحزن والعزاء الحسيني. وكذلك اُعزّي الحاضرين وكافّة المؤمنين في كل مكان بالعالم، ولكل من يسمع كلامي. وأرجو الله تبارك وتعالى وببركة الإمام الحسين صلوات الله عليه، أن يعجّل في ظهور مولانا الإمام المهدي صلوات الله عليه، لأنّه بعدم تحقّق يوم الظهور، سيبقى الحسين صلوات الله عليه (الوتر الموتور).

المصيبة الأعظم

نحن على أعتاب شهري العزاء، محرّم الحرام وصفر الأحزان. وبناء على تعبير الروايات، فإنّ مصيبة يوم عاشوراء هي أكبر مصيبة وأعظمها في التاريخ، فحتى الحور العين في الجنّة بكين وتعزّين، وكذلك أهل الأرض والسماء والبحار وحتى الحيوانات. وأنا شخصياً لم أجد هكذا أمر عجيب ومطلب غريب تجاه أيّة مصيبة وأيّ ألم آخرين.

لو عاش الإنسان العمر المديد، بأن يعيش ألف سنة مثلاً في الدنيا، ويدرس ويطالع ما كتب ونقل عن الإمام الحسين صلوات الله عليه في الروايات والتواريخ، فلا يمكنه ولا يستطيع أن يسبر هذا البحر العظيم أو يغترف غرفة منه.

اللهم اخذل من خذل الحسين عليه السلام

ما اُريد أن أذكره لكم وأتحدّث عنه باختصار، يرجع إلى زمن مولد الإمام الحسين صلوات الله عليه. فقد كان مولد الإمام كسائر الخصائص الحسينية، ذات سرّ وغريب وعجيب. فالعجيب والغريب في ذلك، أنّ المبعوث رحمة للعالمين، سيّدنا النبي الكريم صلى الله عليه وآله، عندما ولد الإمام الحسين صلوات الله عليه، لعن بعض الناس، وسأل الله تعالى بأن يخذلهم. فأول كلام قاله صلى الله عليه وآله في تلك اللحظة، هو: (اللهم اخذل من خذله) أي من خذل الإمام الحسين صلوات الله عليه.

كلّنا نعلم، بأنّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله قد ذكر وقال مثل تلك العبارة في يوم الغدير وعندما أعلن ولاية ووصاية مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولكن الفرق بينهما، أنّ الدعاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بالغدير كان مقدّماً على الخذلان، حيث قال: (اللهم انصر من نصره واخذل من خذله). ولكن في يوم مولد الإمام الحسين صلوات الله عليه فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد وجّه وجهه الشريف إلى الله القادر المتعال، ودعا بالخذلان لمن يخذل الإمام الحسين صلوات الله عليه، وكلنا ندرك جيّداً وكا يصرّح القرآن الكريم بـ(إنّ الله على كل شيء قدير).

ما هو الخذلان

كما هو معروف أنّ (الخذلان) لفظ عربي، ويستعمل في الموارد التي ينتهي فيها الشخص عن إعانة شخص آخر، رغم استطاعة الأول على الإعانة، أو يعينه أقل مما يمكنه من الإعانة. ويسأل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله الله تعالى بأن يخذل من ينصر الإمام الحسين صلوات الله عليه. وحسب مصطلح علماء اللغة العربية فإنّ هذا الحدث هي واقعة حقيقة وليست قضية خارجية، أي بهذا المعنى بأنّه عندما ولد الإمام الحسين صلوات الله عليه لم يقم أحداً بظلم الإمام الحسين صلوات الله عليه لكي يكون لها مصداق خارجي ويشمله دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله بالخذلان، بل إنّ هذا الخذلان يمتدّ عبر التاريخ، فكل ظلم يصدر بحقّ الإمام الحسين صلوات الله عليه في أي مقطع من التاريخ، فسيشمله دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وآله بالخذلان. وعليه فإنّ دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وآله يترتّب على المظالم التي صدرت من معاوية وأمثاله تجاه الإمام الحسين صلوات الله عليه وإلى يوم القيامة، بل وإلى آخر لحظة من لحظات الدنيا، وسيكون الخذلان مترصّداً بالظالمين وبكل من يقصّر في نصرة الإمام الحسين صلوات الله عليه. ولذا، فإنّ دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وآله لا ينحصر بيوم عاشوراء، بل كان يوم عاشوراء المصداق الأكبر لمن خذل الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولأولئك الذين ينصروه، وقبلهم اولئك الذين أعانوا من ظلم الإمام الحسين صلوات الله عليه، والله تعالى يلعنهم جميعاً.

الخذلان إلى يوم القيامة

إذن، الأصل في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله هو أنّ دعاء النبي قضية حقيقية وفيها الظهور بهذا الخصوص، إلاّ إذا كان لمورد قرينة على كونه خارجاً عنه. ولو ألقينا نظرة على أول الفقه وإلى آخره وكذلك الآيات القرآنية والروايات التي تتمتع بمقام الإرجاع والاستدلال، فسنرى أنّ الفقهاء قد اتّفقوا على أنّه متى ما وجدت قضية حقيقية، فإنّها بحاجة إلى قرينة لتكون خارجية. فكل من لم ينصر الإمام الحسين صلوات الله عليه في أية فترة من التاريخ وفي أي زمان، أو يصرف القليل من قدراته لنصرة الإمام، فإنّه قد خذل الإمام ويشمله دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وآله. وخلال مطالعاتي وبحثي في التاريخ والروايات لم أعثر على مورد شبيه لذلك، بأنّ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله بحقّ سائر المعصومين صلوات الله عليهم عند ولادتهم مثل ما قاله بحقّ الإمام الحسين صلوات الله عليه. علماً بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد احتضن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه عند ولادته وكذلك احتضن السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليه وكذلك الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، ولكم لم يدع لهم كما دعا للإمام الحسين صلوات الله عليه، علماً بأنّهم صلوات الله عليهم قد تعرّضوا لمصائب في طول حياتهم وتحمّلو الكثير منها، وخذلتهم الأمّة. ومن الواضح أنّ الذين كانوا في رأس قائمة من ظلم الإمام أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء صلوات الله عليهما، لم يكونوا هم الأعداء فقط بل كان لهم الأعوان والأنصار الذين أعانوا الظلمة، وكان الكثير منهم من الشيبة الذين كانوا يدّعون صحبة النبي الكريم صلى الله عليه وآله. وهؤلاء كلهّم تركوا الإمام أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليهما وآلهما واقترفوا الخذلان بحقّهما.

أعوان الظلمة

قال الإمام الصادق صلوات الله عليه لأحد أعوان الظلمة إنّه لولا هو وأمثاله لما استطاع الظالمون أن يظلموا أهل البيت صلوات الله عليهم بمفردهم. وهكذا كان الحال دائماً، فمنذ الأزل هناك من يعين الظالمين ويخذل المظلومين. وقد أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: «فريق في الجنة وفريق في السعير»، في إشارة إلى أنّ بعض الأشخاص يكون مصيره الجنّة وبعض آخر النار. وظهور هاتين الفئتين هو نتيجة للاختبار الذي يجريه الله تعالى للإنسان في هذه الدنيا. فدائماً ما يظهر في الدنيا ظالمون، ويقوم بعض الناس، طمعاً في المال أو السلطة أو خوفاً أو لأي سبب آخر، بتأييدهم ومعاونتهم، أو على الأقل يمتنعون عن نصرة المظلوم.

مع ذلك كله، يمكن اعتبار اللعن الوارد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلوكه الفريد، خصيصة من الخصائص الحسينية التي لم أر مثلها بالنسبة إلى باقي المعصومين صلوات الله عليهم. علماً بأنّه، وكما ذكر، فإنّ هكذا دعاء ورد في حقّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم غدير. لكن في ذلك الكلام، كان الدعاء مقدّماً على اللعن، ولم تصدر مثل تلك العبارة من رسول الله صلى الله عليه وآله عند ولادة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولا عند ولادة أي من المعصومين صلوات الله عليهم. فلم يطلب النبي الكريم صلى الله عليه وآله من الله تعالى أن يتخلّى عن نصرة من لا ينصرهم أو من يقل في نصرتهم، بل إنّ تلك العبارة وهذا الأمر يظل حصرياً وخاصّاً بالإمام الحسين صلوات الله عليه. والخذلان من الله تعالى له نطاق واسع، حيث أنّ الخذلان في الدنيا هو جزء منه فقط ويشمل الآخرة أيضاً. وليت نطاق هذا الخذلان كان يشمل الدنيا فقط ولا يمتد إلى الآخرة. فالدنيا ليست إلا بضع لحظات وتنتهي في النهاية، ولكن الآخرة هي التي لا نهاية لها.

مصاديق النصرة والخذلان

نظرًا لأنّ هذه المسألة هي حقيقة واقعية، فإنّ نصرة الإمام الحسين صلوات الله عليه وترك نصرته في زمننا لها مصاديقها الخاصة، تماماً كما سيكون لها مصاديقها بعد ألف عام، وكانت لها مصاديق قبل زمننا أيضاً. ففي هذا السياق، المهم لنا هو أن نعرف ما هي مصاديق نصرة الإمام الحسين صلوات الله عليه، ومصاديق ترك نصرته في زمننا.

بلى، إنّ عاشوراء عصرنا ليست عاشوراء عام 61 للهجرة، وأنّ أول محرم في زماننا ليس المحرم نفسه الذي كان فيه الإمام الحسين صلوات الله عليه في طريقه إلى كربلاء، وقد مضى ألف وأربعمئة عام على تلك الأيام. ولكن، هل لا يمكن في هذا العصر أن ننصره؟ وهل لا يمكن في عصرنا أن نكون من بين الذين لم ينصروه؟ كلنا نعلم أن الأمر ليس كذلك، ففي عصرنا توجد مصاديق للنصرة والخذلان.

اليوم، الشعائر الحسينية المقدّسة هي المجال الذي إذا تم تقويته بجميع أشكاله، من زيارة الإمام إلى إقامة العزاء والنواح، وسائر أنواع الشعائر الحسينية، فإن ذلك يُعد نصرةً له. وإذا تم تجاهل هذه الشعائر أو محاربتها، فإن ذلك يُعتبر خذلانًا وعداءً للإمام صلوات الله عليه.

ملاحظة حول الشعائر الحسينية

لقد ذكرت مراراً وأكرر مرة أخرى بهذه المناسبة أنني لم أجد في أي رواية استخدامًا محددًا لعبارة (الشعائر الحسينية)، لكننا في الواقع لسنا بحاجة إلى أن تُذكر في رواية معيّنة بتلك العبارة بالذات، لأنّ المعصوم صلوات الله عليه قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع؛ أي علينا أن نقدم المبادئ الأساسية وعليكم أن تفرعوها». وكل القضايا الحقيقية هي من هذا النوع.

من ناحية أخرى، كذلك في تعريف الشعائر لم يتم تحديد مصاديق معيّنة ومحدّدة. لذلك، يجب الرجوع إلى العرف لنرى ما هي المصاديق التي يحدّدها العرف للشعائر؛ وهذا الأمر قد ذكر مراراً وتكراراً في كتب فقهية متعدّدة، منها الكتاب القيّم (جواهر الكلام) وسائر الكتب. بعبارة أخرى، قالوا: «إن الحكم إلاّ لله». ولذلك، يصدر الحكم الشرعي من الله تعالى، وإذا لم يتم تحديد مصاديق لهذا الحكم من قِبَل الله عزّ وجلّ، فيُرجع إلى العرف، وكل ما استخلصه العرف يعتبر ضمن مصاديق هذا الحكم الشرعي. والشعائر هي جمع شعيرة، وتعني في اللغة الشعر الصغير الموجود على سطح جسم الإنسان ويُعتبر جزءاً من الجسم. ولذلك، قال الفقهاء إنّه في الوضوء والغسل يجب غسل هذه الشعيرات أيضاً، رغم أن غسل الشعر ليس واجباً في الغسل.

عندما ندخل هذا المصطلح في قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه، فإنّ كل ما يُعتبر من وجهة نظر العرف العام، وليس العرف الخاص أو عرف المتشرعة، تكريماً وتعظيماً للإمام، يُعتبر من شعائره. ولأنّ القضية حقيقية، فلا يلزم أن تكون موجودة في زمن المعصومين صلوات الله عليهم. وبهذا التفسير، فإنّ مواكب العزاء واللطم، وضريح الإمام المصنوع من الذهب والفضة والمثبّت على قبره، أو القبّة الذهبية المشيّدة في حرمه، وحتى بناء الصحن والحرم الحسيني، رغم عدم وجودها في زمن المعصومين صلوات الله عليهم، تُعتبر من الشعائر الحسينية المقدّسة.

حتى لو لم تك زمن الأئمة

لذا، ليس من الضروري أن تكون كل الشعائر الحسينية قد ظهرت أو كانت في زمن المعصومين صلوات الله عليهم ونالت تأييدهم مباشرة. لهذا السبب، فإنّ أمثال موكب عزاء (طويريج) الذي يعود تاريخه إلى حوالي مئتي عام، الذي يشارك فيه الناس برؤوس حاسرة وأقدام حافية وبهيبة خاصة، ويجرون من منطقة طويريج باتجاه الحرم المطهّر للإمام الحسين صلوات الله عليه للوصول إلى مرقده المقدّس، يُعتبر من الشعائر الحسينية المقدّسة، رغم أنّه في زمن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم لم يقم أحد بالزيارة بهكذا طريقة، أي عزاء طويريج.

علماً، أنّه لدينا روايات خاصّة تتعلّق بالمشي حافي القدمين في يوم عاشوراء أو ارتداء الملابس السوداء في عزاء الإمام الحسين صلوات الله عليه، وحتى الأئمة صلوات الله عليهم، كالإمام الهادي والإمام الحسن صلوات الله عليهما، ارتدوا الملابس السوداء في عزاء الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولكن لا توجد رواية خاصّة لكل شعيرة.

بناءً على ما أوضحناه بشكل مجمل ومختصر، لنعلم بأنّ أيّ شيء ليس من المحرّمات سواء بشكل عام أو خاص، ويُعتبر من مصاديق تجليل مقام ومكانة الإمام الحسين صلوات الله عليه وفقاً للعُرف العام، وليس العُرف الخاص أو عرف المتشرعة، فإنّه يُعتبر من الشعائر الحسينية. ولا فرق في ذلك إن تم تنفيذه في المدينة المقدّسة كربلاء، أو في باقي الدول الإسلامية أو غير الإسلامية، أو في أي زمان. وعلى سبيل المثال، هناك سُنّة حسنة انتشرت في السنوات الأخيرة ولم تك موجودة في السابق، وهي أن بعض الأشخاص يرتدون الملابس السوداء ويقيمون العزاء قبل حلول شهر محرّم الحرام كاستعداد لهذا الشهر الحزين. وهذه الأعمال تُعتبر من شعائر الإمام الحسين صلوات الله عليه أيضاً لأنّها تدلّ على تعظيم وتبجيل مقام الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، وخاصّة الإمام الحسين صلوات الله عليه.

التوعية العالمية

بمناسبة الحديث عن مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه وشعائره، أشير إلى نقطة مهمة بالخصوص. فجميعنا نعلم بأنّ القرآن الكريم في مواضع مختلفة يخاطب جميع البشر، حيث يستخدم الله تعالى تعبير «أيّها الناس»، وهذا التعبير يشمل جميع أفراد البشر، وفي عصرنا الحالي يعيش حوالي ثمانية مليارات إنسان على وجه الأرض. كذلك، استخدم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في يوم الغدير تعبير «معاشر الناس»، على الرغم من أنّ جميع الحاضرين كانوا من المسلمين، ولم يكن هناك حسب الظاهر أي غير مسلم، سواء كان مسيحياً أو يهودياً أو مجوسياً أو من أي فئة أخرى من المشركين بينهم. وهذا يعني أنّ كلمات النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير لم تك موجّهة فقط للمسلمين الحاضرين أو لجميع المسلمين، بل كان حديث رسول الله صلى الله عليه وآله موجّهاً لجميع بني البشر من كل دين ومذهب.

هذا النوع من الخطاب يمكن رؤيته أيضًا في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وغيرها، وفي كلام السيدة الزهراء سلام الله عليها في خطبتها البليغة التي ألقتها في مسجد النبي صلى الله عليه وآله أمام جمع من المسلمين والصحابة، سواء كانوا مؤمنين أو منافقين. حتى في كلام الأئمة الآخرين عليهم السلام، يظهر هذا النمط من الخطاب الذي يدل على أن حديثهم لم يكن موجهاً فقط للمسلمين، بل كان لجميع البشر.

لذلك، يجب أن تُنقل كلماتهم صلوات الله عليهم إلى جميع الناس على وجه الأرض. والعناية بهذا الأمر واجبة، وتوفير مقدّمات وجود الواجب المطلق هو واجب آخر أيضاً.

وجوب إيصال كلامهم عليهم السلام

إنّ توفير هذه المقدّمة يقع على عاتق جميع المكلّفين في أي نقطة من العالم، ولا يوجد فرق بين العلماء الحوزويين أو الجامعيين أو حتى أصحاب الأعمال، فكل رجل وامرأة يتحمّلان مسؤولية بقدر إدراكهما وقدرتهما في هذا الخصوص، لأنّ القوة من الشروط العامّة للتكليف وكل إنسان يمتلك قدرات بالقوة بشكل كبير. وعلى أي حال، فإنّ معالجة هذا الموضوع واجب كفائي، وفي زماننا هذا لا يوجد من يكفي للقيام به، مما يجعله واجباً عينياً. لذلك، يجب على جميع الأفراد الذين يستطيعون التعامل مع هذا الموضوع أن يؤدّوا دورهم في هذا المجال. فهل وصلت معارف وفكر وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والسيدة الزهراء سلام الله عليها والإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام إلى جميع البشر البالغ عددهم ثمانية مليارات على الأرض؟

إذن، يجب إيصال نداء «أيها الناس» في القرآن الكريم و«معاشر الناس» لرسول الله صلى الله عليه وآله و«أيّها الناس» للسيدة الزهراء سلام الله عليها إلى آذان وقلوب جميع الناس. والعمل في هذا المجال هو واجب عيني على جميع من لديهم القدرة على القيام به. وفي هذا السياق، قد تحدث تزاحمات بين الواجبات العينية حيث يجب على الإنسان أن يلتزم بالواجب الأهم.

طبقًا لما ذكر وبالاستناد إلى القرآن الكريم والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة عليهم السلام، فإن إيصال رسالة عاشوراء وما جرى فيها إلى العالم هو واجب عيني على جميع الرجال والنساء. وإذا كان لدى أحد القدرة على ذلك وقصّر أو لم يقم بهذا الواجب بقدر استطاعته، فقد خان قضية الإمام الحسين عليه السلام وسيعاني من خذلان الله تعالى.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ». فالله تعالى القادر المطلق لا يحتاج إلى نصرتنا، ولكن نصرة الله واجبة وخذلانه حرام. وكذلك خذلان المعصومين عليهم السلام حرام. وفي هذا السياق، فإنّ خذلان قضية الإمام الحسين عليه السلام يعاقب عليه بعقوبة أشدّ بكثير، ويجب الحذر من التقصير في حقّه، لأنّ ذلك يجلب لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

الخذلان الثقافي

يمكن تقسيم الخذلان تجاه الإمام الحسين عليه السلام إلى قسمين: الخذلان الثقافي والخذلان العملي.

الخذلان الثقافي، يعني ضرورة إيصال ثقافة الإمام الحسين عليه السلام إلى العالم. فقد قال الإمام الحسين عليه السلام عن سبب نهضته: «أريد أن... أسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب». وفي هذا القول، أشار الإمام إلى سيرة جدّه وأبيه، وأكّد بالاسم على أبيه الإمام علي عليه السلام، فما هو سبب هذا التأكيد؟

كما تعلمون، في ذلك العصر ولسنوات طويلة، كان أمير المؤمنين عليه السلام هدفًا للعن والسبّ في كل صلاة جمعة. ونقل المرحوم العلاّمة الأميني رضوان الله عليه في كتابه (الغدير) أنّ الإمام علي عليه السلام كان يُلعن على أكثر من سبعين ألف منبر: «قد كان فيما جعلوه سُنّة، سبعون ألف منبر وعشرة، من فوقهن يلعنون حيدرة؛ مما كانوا يعتبرونه سنّة هو أن يلعنوا حيدرة عليه السلام على سبعين ألف وعشرة منبر».

إنّ التأكيد من الإمام الحسين عليه السلام على ذكر اسم والده كان لإحياء ذكر الإمام علي عليه السلام وتصحيح الصورة المشوّهة التي حاول الأعداء نشرها، وللتأكيد على أنّه يسير على النهج نفسه والسيرة نفسها لجدّه وأبيه في مواجهة الظلم والفساد ونشر العدالة.

تأمّل في مدى الحقد والعداء الذي زرعه الأعداء في قلوب الناس تجاه أمير المؤمنين عليه السلام على مدى السنوات. ففي واقعة كربلاء، نرى أنّ الأعداء الذين اصطفّوا في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام قالوا له: «نقاتلك بغضاً منّا لأبیك». ومع هذا التبيين، من الواضح أنّ التصريح باسم أمير المؤمنين عليه السلام في كلام الإمام الحسين عليه السلام كان له هدف محدّد، وكان الإمام يريد من خلاله أن يفهم العالم أنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام هي المنقذة لهم، وهي في الحقيقة سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله.

لذا، يجب على الجميع، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، أو جامعيين أو حوزويين، أو تجّاراً أو أصحاب أعمال، أن يكونوا يقظين لئلا يقعوا في خذلان ثقافي تجاه الإمام الحسين عليه السلام.

السيرة الفريدة

إذا دقّقنا في أحداث كربلاء، سنرى سيرة الإمام الحسين عليه السلام في تلك الوقائع، ونكتشف أنّ كل شيء منها فريد في نوعه، بل لا مثيل له. فعلى سبيل المثال، قصّة إمداد الإمام الحسين عليه السلام بالماء للحرّ وجنوده، حيث تعتبر نموذجاً لا مثيل له في تاريخ البشرية ويستحقّ أن يُنقل إلى العالم.

نحن نعلم بتقديم الماء للعدو في حادثة صفين، حيث قام الأعداء في البداية بقطع الماء عن جيش أمير المؤمنين عليه السلام، ثم عندما تمكّن جيش أمير المؤمنين عليه السلام من السيطرة على الماء، لم يمنعوا العدو من الوصول إليه. لكن في حادثة الإمام الحسين عليه السلام وجيش الحر، نجد حدثاً مذهلاً. ففي تلك الحادثة، وصل ألف رجل مقاتل ومسلّح بأسلحة الحرب إلى جيش الإمام الحسين عليه السلام، ولكن نقاء لبن أمّ الحر جعلهم لا يقاتلون الإمام الحسين عليه السلام. ولو كانت الحرب قد نشبت بينهما في تلك اللحظة، لكان بإمكان العباس عليه السلام وحده أن يدمّر ذلك الجيش.

تعامل غير مسبوق

عندما نراجع أحداث كربلاء، نجد أنّ الإمام الحسين عليه السلام قدّم نموذجاً فريداً في تعامله مع جيش الحرّ. فقد حاصر جيش الحرّ الإمام وأتباعه ومنعهم من الوصول إلى الماء، بينما كان الجميع في حالة عطش. ومع ذلك، قام الإمام الحسين عليه السلام بتقديم الماء إلى جميع أفراد جيش الحرّ، حتى أنّ الروايات تشير إلى تصرّف غريب وعجيب في هذا الصدد. فقد ورد في الروايات أنّ أحد جنود الحرّ وصل متأخّراً عن الجيش، فلم يكتف الإمام الحسين عليه السلام بإعطائه الماء فقط، بل قام برش الماء على جسم حصانه لتبريده أيضاً: «ورشّف الخيل ترشيفاً». وهذا التصرف يعتبر فريداً وغير مسبوق في تاريخ البشرية.

إنّ الخذلان الثقافي تجاه الإمام الحسين عليه السلام يعني أنّ هذه السيرة الناصعة والمواقف الرائعة إذا لا تصل إلى الناس في جميع أنحاء العالم. فتقع مسؤوليتها على عاتق الذين يستطيعون القيام بهذه المسؤولية الكبيرة، أي لنقل هذه السيرة وتعاليمها من خلال وسائل مختلفة مثل الأقمار الصناعية أو الهواتف المحمولة أو المجلاّت والصحف. فنوع تعامل الإمام الحسين عليه السلام مع جيش الحرّ وحده قادر على إخراج الناس من الغفلة وإنقاذهم.

أقول بصراحة إنّ هذا التعامل يعدّ غير مسبوق في تاريخ البشرية، وهكذا تصرّفات الإمام الحسين عليه السلام الأخرى تحمل نفس القوة والتميّز. لذلك، لا ينبغي أن يكون هناك خذلان ثقافي تجاه الإمام الحسين عليه السلام، على الرغم من أن العالم اليوم يشهد نوعاً واسعاً من الخذلان تجاهه، والمقصّرون في هذا الوضع هم أولئك الذين لم يدعموه أو قدّموا دعماً أقل من قدرتهم.

الخذلان الشعائري

النقطة الثانية التي يجب الانتباه إليها فيما يرتبط بالإمام الحسين عليه السلام هي خذلان شعائره، بمعنى أنّه يجب تعزيز ودعم الشعائر الحسينية المقدّسة. فمما يدعو للأسف، أنّ بعض الناس، سواءً عن قصد أو غير قصد، يقومون بمعاداة الشعائر الحسينية المقدّسة، ويستخدمون كلمات سيّئة وغير منطقية لمحاولة إضعاف هذه الشعائر. فعلى سبيل المثال، يقول بعضهم إنّ بعض الشعائر لم تك موجودة في زمن الأئمة المعصومين عليهم السلام، وأن ظهورها في مرور الزمن يعتبر دليلاً على بطلانها. والغريب أنّ بعض هؤلاء الأفراد يدّعون العلم ويعتبرون أنفسهم أصحاب رأي.

إذا كان شخص قد راجع روايات كتاب (الرسائل) الشريف، أو قرأ كتاب (الفرائد) للشيخ الأنصاري وكتاب (الكفاية) واطّلع على فقه الشيعة، لما قال مثل تلك الأقوال. لأنّ من يعرف تلك الكتب وفقه الشيعة جيّداً يدرك أنّ المعيار في هذه الأمور ليس أن يكون هناك تصريح صريح من الأئمة المعصومين عليهم السلام بشأنها، أو أن يكون هناك ممارسة لها من قبلهم، أو حتى تأييد ضمني من المعصومين عليهم السلام.

عبر عاشورائية

لكي يتم تجنّب الخذلان للشعائر الحسينية المقدّسة، يجب على كل فرد، بقدر ما يستطيع، أن يشارك في مجالس الإمام عليه السلام، وأن يكون لديه عذر مشروع إذا لم يتمكّن من الحضور. وإذا كان بإمكان شخص ما تنظيم مراسيم خاصة للإمام الحسين عليه السلام، فعليه القيام بذلك. ومن يتخلّى عن هذه المسؤوليات دون عذر مبرّر، يكون قد خذل الإمام الحسين عليه السلام، وهذا يستدعي لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

لقد ذكرت سابقاً في مناسبة أخرى عن حادثة تتعلّق بهذا الموضوع. فقد أخبرني أحد العلماء الكبار من الشيعة، الذي توفّي منذ سنوات طويلة، أنه في أيام شبابه، كانت المدارس العلمية تغلق أبوابها خلال أيام عاشوراء. وكانت هذه العادة سائدة منذ القدم بين المدارس العلمية وتستمر حتى اليوم، حتى يتمكن الطلاب من إحياء الشعائر الحسينية المقدّسة، لكن للأسف، أصبح هذا الأمر أقل شيوعاً في الوقت الحاضر، وأصبحت المناسبات الأخرى تُغلق بدلاً من ذلك.

على أي حال، كان ذلك العالم يحدّثني أنّه في سنة من السنوات، عندما توقّفت الدروس والمباحثات العلمية للطلاب في الأيام الأولى من شهر محرّم الحرام، قرّر هو أن يشارك في مجلس عزاء واحد فقط، ويخصّص بقية وقته لدراسة الدروس العلمية، لأنّه كان يعتقد أنّ عدم حضور شخص واحد في مراسيم العزاء لا يضعّفها.

كان ذلك العالم، وفقاً لما ذكر، قد قرّر في ذهنه أنّه من الأفضل أن يشارك في مجلس عزاء واحد فقط خلال الأيام الأولى من شهر محرّم، وأن يقضي بقية وقته في الدراسة العلمية. ولكنه بعد انتهاء العشر الأوائل من شهر محرّم، عانى من ألم شديد في عينيه، إلى درجة أنّه لم يكن قادراً على قراءة حتى كلمة واحدة إلى عشرين من محرّم. ورغم أنّ هذا العالم كان قصّر في تنفيذ عزمته، إلاّ أنّه عانى من نتائج اختياره، والحمد لله أنّه رأى نتائج عمله في هذه الدنيا بدلاً من أن يُؤجّل إلى الآخرة.

في إطار المراسيم الحسينية، لا يوجد فرق بين القاصر والمقصّر؛ فكل منهما يواجه نتائج أفعاله. فالمقصّر يعاقب نتيجة لخطأه، بينما القاصر يواجه الحكم الوضعي والتكويني في هذه القضية. حتى لو كان ذلك العالم قد كان قاصراً في اختياره ولم يرتكب خطأ، فإنّ أحداث قضية الإمام الحسين عليه السلام هي استثنائية، والقصص المرتبطة بها لا تقتصر على العشرات أو المئات، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك.

مثال على الخذلان للشعائر

مثال على ذلك، قصة الرجل الذي كان ضمن جيش عمر بن سعد في واقعة كربلاء، التي ذُكرت في كتب مختلفة، بما في ذلك كتاب (بحار الأنوار). ذلك الرجل كان في جيش عمر بن سعد الذي ضم على الأقل ثلاثين ألف شخص، لكنه لم يقاتل الإمام الحسين عليه السلام بأي شكل من الأشكال. وبعد فترة قصيرة من واقعة عاشوراء، استيقظ هذا الرجل ذات يوم من نومه وصار يصرخ ويفقد بصره. وذكر أنّه رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي عاتبه بسبب حضوره في كربلاء. وقد أجاب الرجل قائلاً إنّه كان في نهاية جيش العدو، ولم يقاتل ولم يرم حجراً ولم يفعل أي شيء آخر. وكان ردّ النبي صلى الله عليه وآله يعكس طبيعة الاستثنائية لقضية الإمام الحسين عليه السلام، حيث قال: «كثّرت السواد على ابني»، ثم أخذ صلى الله عليه وآله عود مغمّسة في الدم ومرّرها على عيني الرجل، ففقد بصره.

هذه الحادثة غريبة للغاية. فعندما يجتمع ثلاثون ألف جندي مع خيولهم وأسلحتهم في نقطة معيّنة، فإنّهم يحتلّون مساحة واسعة تقدّر تقريباً بميل واحد، ووجود شخص واحد في مثل هذا التجمّع لا يُلاحَظ عادة، ووجوده لا يُعدّ عادةً إضافة كبيرة إلى تلك الكتلة الكبيرة. لكن الأحداث المرتبطة بالإمام الحسين عليه السلام ليست أموراً عرفية بل هي خاضعة لمقاييس دقيقة. فبسبب وجود هذا الرجل في جيش العدو، اعتبر أنّ عددهم قد ارتفع من ثلاثين ألف إلى ثلاثين ألفاً وواحداً، وأصبح مستحّقاً للعذاب من الله سبحانه وتعالى. وهذا يظهر أنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام هي استثنائية وكبيرة في العالم.

توسيع الشعائر

مسألة أخرى جديرة بالاهتمام فيما يرتبط بالإمام الحسين عليه السلام هو موضوع توسيع الشعائر. ففي الوقت الحاضر، توجد مجالس حسينية، ومآتم، ومسيرات، وجميع أنواع الشعائر الحسينية في العديد من دول العالم، لكن هذه الشعائر لا تزال غير متواجدة في كل أنحاء العالم. فيجب العمل على تحقيق هذه المهمة حتى يتعرّف جميع الناس على الشعائر الحسينية المقدّسة وتصل إلى جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان غير الإسلامية، حيث أنّ الشعائر الحسينية موجودة بنسب متفاوتة في البلدان الإسلامية.

مع ذلك، حتى في البلدان الإسلامية، توجد مدن وقرى قد لا تكون فيها آثار للشعائر الحسينية. فالأشخاص الذين يمتلكون القدرة على القيام بنشاطات في هذه المناطق، دون أن يتعرّضوا لأذى أو ضرر، مثل إنشاء حسينية في هذه الأماكن أو تنظيم مراسيم حسينية في مدينة أو قرية معيّنة أو تخصيص أموال لهذا الغرض، ويعيّنون شخصاً لتنظيم الشعائر الحسينية هناك، إذا لم يقوموا بذلك، فإنّهم يعتبرون قد قصّروا في حقّ الإمام الحسين عليه السلام. وهذا العمل لا يعدّ مجرّد نشاط ديني، بل هو مسؤولية كبيرة، حيث أنّ توسيع وتعزيز الشعائر الحسينية المقدّسة يُعتبر واجباً على كل من يمتلك القدرة على القيام به، وذلك لتجسيد الرسالة العظيمة للإمام الحسين عليه السلام في جميع أنحاء العالم.

الحزن والفرح في ثقافة أهل البيت عليهم السلام

في سياق مناقشة هذا الموضوع، من الجدير أن نشير بإيجاز إلى مسألة مهمّة تتردّد هذه الأيام، وهي أنّه يقول بعضهم بإنّ ثقافة أهل البيت عليهم السلام تقتصر على الحزن والعزاء فقط. لكن هذا غير صحيح، فثقافة أهل البيت عليهم السلام تشمل كل من الحزن والفرح، كما جاء في حديث المعصوم عليه السلام: «شيعتنا ... يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا». وهذا يعني أنّ الشيعة في أوقات الفرح التي يكون فيها أهل البيت عليهم السلام فرحين، مثل عيد الغدير والأعياد الأخرى والمواليد لأهل البيت، يكونون فرحين. وفي أوقات الحزن، مثل شهري محرم وصفر، يكونون في حالة حزن، وهذه هي ثقافة أهل البيت عليهم السلام.

علاوة على ذلك، يوصي المعصومون عليهم السلام بقراءة زيارة عاشوراء يومياً، مما يعني أنّ لعن ظالمي أهل البيت عليهم السلام يجب أن يكون مستمراً على مدار العام، مع التركيز الخاص على شهري محرّم وصفر. ومع ذلك، ووفقاً لامتثالنا لذلك الحديث، يجب أن لا نتجاهل الجانب الآخر من تعاليم أهل البيت عليهم السلام التي تأمرنا بالفرح في أوقات فرحهم. فعيد الغدير وعاشوراء هما جناحي الإسلام، ويجب أن نولي كل منهما الاهتمام المناسب.

حساب حتى مثقال ذرّة

يشير الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى موضوع مثير للاهتمام لم يُشر إليه في الأدب العربي قبل الإسلام، حتى بين البلغاء والفصحاء. فالله تعالى يتحدّث عن (الذرّة) في قوله:«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» أي: من يعمل بقدر ذرّة واحدة من خير سيرى نتيجته، ومن يعمل بقدر ذرّة واحدة من شرّ سيرى عاقبته. وتعكس هذه الآية دقّة الحساب الإلهي في يوم القيامة، حيث يتم حساب كل عمل صغير وكبير، ويُظهر مدى اهتمام الله تعالى بكل تفاصيل أفعال الإنسان.

إنّ كلمة «مثقال» هي مصدر ميمي وتأتي بمعنى الثقل والوزن، وأما «ذرة» فما معناها؟

الذرّة ليست بمعنى الذرّة التي يشير إليها العلماء في العلم الحديث، بل المعنى اللغوي للذرّة هو المقصود هنا وليس المعنى العرفي. بعض التفاسير أوضحت معنى الذرّة وقالت إنّه إذا كان هناك مكان مظلم تماماً ودخل إليه ضوء الشمس من خلال ثقب أو نافذة صغيرة، فسنرى جسيمات صغيرة جدّاً معلّقة في الضوء، وهذه الجسيمات الدقيقة هي ما يقصده القرآن الكريم بلفظة (ذرّة). فيقول القرآن الكريم في هذه الآية بأنّ كل عمل، مهما كان صغيراً، كوزن هذه الجسيمات الدقيقة، سيتم حسابه. والمثير للاهتمام هنا هو أنّ القرآن يشير إلى وزن هذه الجسيمات وليس حجمها، على الرغم من أنّ هذه الجسيمات لها حجم ويمكن رؤيتها في الضوء الذي يدخل إلى مكان مظلم، ولكنها لا تُرى في الأماكن المضيئة جدّاً مثل الشوارع. فهذه الجسيمات الدقيقة معلّقة في الهواء بسبب خفّتها الشديدة، ولا أعرف كم مليوناً منها تحتاج لتصل وزنها إلى غرام واحد.

أبسط خدمة تسجّل وتوثّق

إذا طبّقنا هذه المعادلة القرآنية على قضية الإمام الحسين عليه السلام، فإنّ ذلك يعني أنّه إذا قام شخص ما بمساعدة الإمام الحسين عليه السلام بأيّة وسيلة، سواء كانت مالية، أو بالكلام، أو من خلال اتخاذ موقف معيّن أو بأي طريقة أخرى، وإذا قام بدعم الشعائر الحسينية المقدّسة بوسائل مختلفة مثل: الفضائيات أو الهواتف المحمولة أو التبرّع بالأقمشة السوداء للعزاء، وتوفير مستلزمات العزاء مثل السلاسل والطبول والصنوج وغيرها، فإنّ كل ذرّة من هذه الخدمات تُسجل وتُوثق في محضر الله جلّ وعلاء، ولن يُمنح الشخص فقط الأجر والثواب، بل سيشعر بمكافأة هذا الخدمة بكل وجوده ويرى نتائجها. فعلى سبيل المثال، إذا خدم شخصان في حسينية أو هيئة أو موكب وكل واحد منهما عمل لمدّة خمس ساعات، لكن أحدهما خدم دقيقة واحدة أو ثانية واحدة وحتى نصف ثانية أكثر، فإنّ هذه الدقيقة الواحدة والثانية والنصف الثانية ستُحسب أيضاً. وهذا هو معنى الخدمة الذريّة في القضية الحسينية.

عكس ذلك الأمر صحيح أيضاً، فكل دقيقة وثانية ونصف ثانية تُحسب وتُحاسب، سواء كان ذلك في النشاط أو المال، ويُعتنى بكل تفصيل. وعلى سبيل المثال، هناك روايات عديدة تتحدّث عن نتائج الامتناع عن صرف المال في سبيل رضى الله سبحانه، ولا حاجة لذكرها جميعاً حيث يمكن للمهتمّين بالدراسة الوصول إليها بسهولة. والرواية التي أودّ ذكرها تتعلّق بالإنفاق المالي، ولكن الموضوع ليس المال بحدّ ذاته بل هو مجرّد مثال على أمور عديدة ومختلفة.

ضياع ولا أجر

توجد الرواية في كتب مثل بحار الأنوار ووسائل الشيعة وغيرها، ومضمونها هو أنّه إذا كان لدى شخص ما مبلغ مالي زائد عن حاجاته الشخصية ويمكنه أن ينفقه في عمل خير، مثل دعم الشعائر الحسينية التي تُعد من أبرز وأهم مصاديق العمل الصالح، لكنه امتنع عن ذلك، فإنّ هذا المال سيخرج من يده دون أن يحصل على أجر منه، وسينفق في طريق لا يعود عليه بأي أجر. نعم، سيفقد ماله دون أن ينال أي ثواب في المقابل.

لتوضيح ذلك بشكل مختصر، أودّ الإشارة إلى رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام، فقد قال صلوات الله عليه: «مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ». وعلى سبيل المثال، إذا تعرّض المؤمن في الدنيا لمحنة ما، مثل فقدان ماله، فإنّ الله تعالى يعوّضه عن هذه المرارة في الآخرة ويمنحه أجراً مضاعفاً. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: «والله يضاعف لمن يشاء ». ولكن إذا كان بإمكان هذا الشخص أن يستثمر أمواله في عمل خير، وخاصّة في دعم الشعائر الحسينية المقدّسة، ولم يفعل ذلك وفقد أمواله، فلن يحصل على أجر أخروي مقابل المرارة التي تعرّض لها في الدنيا. وفي هذا السياق، وردت العديد من الروايات.

قبل عدّة سنوات، جاءني شخص وأخبرني بأنّه يملك مبلغاً كبيراً من المال، يتجاوز عشرات المليارات من العملة الإيرانية، وكان هذا المال زائداً عن حاجاته وحاجات أسرته. فاقترحت عليه أن ينفق هذا المال في سبيل الإمام الحسين عليه السلام، فتحجّج بأنّه لا يملك نقداً بل يملك أرضًاً. فنصحته ببيع الأرض وإنفاق المال في سبيل الإمام الحسين عليه السلام، لكنه لم يقتنع بذلك. وفي العام التالي، جاءني مرّة أخرى وأخبرني أنّه فقد كل هذا المال. وهذه القاعدة لا تقتصر على المال فقط، بل تشمل أيضا القوى والسمعة وأيّة نعمة أخرى يمكن استثمارها في سبيل الإمام الحسين عليه السلام. فإذا لم يتم استثمارها في هذا السبيل، فستضيع في أمور لا تدر أجراً. ولذلك، فإنّ قول «مرارة الدنيا حلاوة الآخرة» يتم تخصيصه بقول «ليس مأجور» في تلك الرواية، مما يعني أنّ من يمتنع عن استثمار نعمته في عمل الخير سيُحرم من الأجر الأخروي الذي كان يمكن أن يحصل عليه.

لتوسعة الشعائر

على كل حال، إنّ الهدف من بیان هكذا مطالب هو تقديم تفسير للحديث الشريف للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله الذي أشرت إليه في بداية الكلام. لذلك، يجب على الجميع، أينما كانوا يعيشون في العالم، خاصّة أولئك الذين يعيشون في الدول غير الإسلامية، أن يبذلوا جهوداً كبيرة في سبيل توسيع المجالس، والهيئات، ومراسيم العزاء، والشعائر الحسينية المقدّسة. فتوجد آلاف المدن، والقرى، والبلدات التي لم تظهر فيها شعائر حسينية حتى اليوم. فيجب العناية بهذه الأماكن، إما بالذهاب بأنفسكم إليها، أو بإرسال أشخاص إليها، أو بتمويل مواكب وهيئات في تلك الأماكن، ثم تدريجياً توسيع دائرة نشاطاتكم.

لقد وعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في حديثه المعروف، بازدياد وانتشار ونمو الشعائر الحسينية، وقال إنّه بالرغم من محاولات أئمة الكفر وأتباع الضلال، فإنّ مسيرة الإمام الحسين عليه السلام ستزداد توهّجاً ونموّاً يوما بعد آخر. وهذا الحديث ذكرته السيّدة زينب سلام الله عليها للإمام السجّاد عليه السلام يوم عاشوراء كتذكير، رغم أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان على علم تامّ بالحديث وما يحمله من رسالة. ولذا، يجب أن نخضع جميعاً لهذا الامتحان لنرى من سيصرف أرضه التي تزيد عن احتياجاته للإمام الحسين عليه السلام، ومن لن يفعل ذلك. أو لنرى من يستطيع أن يخصّص مبلغاً أكبر لخدمة الإمام الحسين عليه السلام، أو من يمكنه تشجيع الآخرين على هذا المسار ولكنه لا يفعل، فيجب أن نخضع جميعاً لهذا الاختبار.

أربعينية عالمية

من المناسب أن أأكّد على قضية مهمة ترتبط بالأربعين الحسيني المقدّسة، إذ ينبغي على الجميع أن يساهموا في مناسبة الأربعين بكل ما أوتوا من قدرة ليجعلوا الزيارة الأربعينية المقدّسة تتزايد عظمة وروعة عاماً بعد عام. ولتحقيق هذا الهدف الهام، ينبغي استخدام كل الوسائل المتاحة، من مجالس إلى وسائل الاتصال الجماهيرية مثل: الفضائيات، والهواتف المحمولة، وأيّة وسيلة أخرى. فلماذا لا يزيد عدد زوار الإمام الحسين عليه السلام سنوياً؟ ولماذا لا تزداد الأرقام من عشرين مليون زائر إلى ثلاثين مليون وأربعين مليون وحتى مائة مليون زائر؟ أليس للإمام الحسين عليه السلام مئات الملايين من المحبّين والمريدين في جميع أنحاء العالم؟ في حين أنّنا نعلم أنّ حتى الكفّار وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى يكنّون له التقدير والاحترام. فعدد المحبّين للإمام الحسين عليه السلام في جميع أنحاء العالم يصل إلى مئات الملايين.

إنّ الحماس والحبّ اللذين يحملهما اولئك الأشخاص تتطلب أن يتشكّل عزم راسخ على مستوى العالم، وحتى في البلدان غير الإسلامية، للاستفادة من الحريّة النسبية المتاحة في مناطق مختلفة من العالم، لتسهيل حضور ملايين الزوّار في الزيارة الأربعينية المقدّسة. فيجب تشكيل مجموعات صغيرة لهذا الهدف، والتواصل مع الوزراء والنواب وبقية المسؤولين في البلدان غير الإسلامية لإقناعهم بضرورة تقديم استثناءات لجميع المواطنين لحضور زيارة الأربعين المقدّسة، وتوفير التسهيلات اللازمة لهذه الرحلة.

لأصحاب القدرات المالية

كذلك من المناسب أن يتكفّل من لديهم القدرة المالية بدعم الذين لا يستطيعون تحمّل نفقات زيارة الأربعين المقدّسة. فيمكنهم تنظيم وسائط النقل من مختلف أنحاء العالم لنقل المحبّين للإمام الحسين عليه السلام. وأما الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف هذه الأنشطة بأنفسهم، فيمكنهم المشاركة من خلال جمع التبرّعات من الآخرين أيضاً، لتنظيم خدمات النقل المجانية، سواء كانت سيارات أو حتى طائرات، لتسهيل تنقّل الزوار. فاستئجار طائرة في العالم اليوم مسألة بديهية، ويمتلك العديد من الأفراد طائرات خاصة. فيمكن إقناع الأفراد بتوفير طائراتهم الخاصّة للزوّار خلال أيام الزيارة الأربعينية الحسينية المقدّسة.

إذن، يجب أن يتم بذل جهد واسع وعالمي لجعل زيارة الأربعين المقدّسة أكثر حيوية وعظمة في كل عام. فكما ذُكر، إذا كان بإمكان شخص ما أن يساهم في هذا المجال بأيّ شكل من الأشكال ومع ذلك يقصّر أو لا يبذل جهده الكامل، فقد أظهر خذلاناً تجاه الإمام الحسين عليه السلام، إلاّ إذا كان هناك عذر حقيقي يجعل الشخص غير مستحّق للعقاب، ولكن هكذا أشخاص قد يواجهون عواقب دنيوية أو نقصاً في درجاتهم الأخروية.

أدعو الله تبارك تعالى وأرجو الإمام الحسين عليه السلام أن تشمل رعايتهم إيّاي وأنتم والجميع، وكل من يستمع إلى كلامي، حتى لا يصدر منّا خذلان تجاه الإمام الحسين عليه السلام.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.