LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: من حضارة الإسلام
رمز 53825
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 19 صفر الأحزان 1447 - 14 أغسطس 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته المعروفة: (أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه)(1).

من سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، نقاط مهمّة في الإصلاح الزراعي، وأولّها قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (من أحيى أرضاً ميتة فهي له، قضاء من الله ورسوله)(2).

الأرض لمن؟

إنّ من القانون الإسلامي الذي سنّه رسول الله صلى الله عليه وآله في مجال الزراعة والإصلاح الزراعي، قانون أنّ الأرض هي لله تعالى ابتداءً، لأنّه هو الخالق، والملكية الحقيقية هي له جلّ وعلا. والمالك الثاني للأرض التي لا مالك لها من قبل، هو كل من أحيا ويحيي الأرض. فكل من يحيي الأراضي الموات ببناء أو زرع أو نهر أو عين ماء وغير ذلك مما يصدق عليه كلمة ومفوم الإحياء، وعلى سعة هذا المفهوم، فهو المالك لها. فالشخص الذي يستطيع بما عنده من مال أو من قوّة شخصية أو من العمّال والأفراد، يقوم بإحياء ألف متر مربع من أرض مثلاً بالزرع أو بالبناء أو بأي نوع من أنواع الإحياء، يكون مالكاً لتلك المساحة من الأرض. وهكذا كل من يحيي مساحة أكثر وأكثر.

الأرض ليست للحكومة

إنّ في سيرة رسول لله صلى الله عليه وآله التي قالها وعمل بها أيّام حكومته، وعمل بها أمير المؤمنين صلوات الله عليه أيّام حكومته، أنّ الأرض ليس شيء منها للحكومة. بل الحكومة مجرّد مدير لها، ومجرّد كوظيفة. فالحكومة في منطق رسول الله ومنطق أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما أن تراعي الشعب وترعاه بأن لا يظلم أحد أحداً، وأن لا يعتدي أحد على أحد. أما أن تكون الأرض للحكومة وهي التي تبيع الأرض على الشعب وعلى الأمّة، فهذا ليس في منطق الإسلام، ولا في منطق رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا في منطق أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وهذا هو المنطق نفسه الذي أعلنه الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته.

مادة قانونية حضارية

إنّ هذه المادّة القانونية (من أحيى أرضاً ميتة فهي له) وحدها، وفي مجال الزراعة والعمارة، كانت كفيلة بإحياء معظم الأراضي الإسلامية. فقد كتب الاصطخري المؤرّخ المعروف الذي عاش قبل قرابة ألف سنة وكان معاصراً للشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه، كتب ما كان امتداداً لسيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما في حكومتيهما، في مجال إحياء الأراضي، حيث استمر العمل على سيرتهما صلوات الله عليهما بعدهما إلى فترة بشيء من الزيادة والنقصان. وعندما نقرأ ما كتبه الاصطخري في تاريخه، يعرف المرء بأنّ تلك المادة القانونية بالإضافة إلى الأحكام المختلفة التي تتبع المادة المذكورة في فقه الإسلام وأحكام الإسلام، ضمنت أموراً مختلفة حضارية لا نظير لها في تاريخ العالم اليوم، حتى في العالم الغربي، بتلك السعة وبتلك الكيفية.

مصر نموذجاً

يذكر الاصطخري في تاريخه بأنّ أرض مصر كانت ستة وثلاثين مليون فدّان. وببركة السيرة النبوية والسيرة العلوية، كان المزروع من أرض مصر، ثلاثين مليون فدّان. رغم أنّه وقبل ألف سنة كانت الأعمال الزراعية والعمارة والبناء وشقّ الأنهار وإيجاد العيون للماء، بالأيادي العاملة، وليس بالتكنولوجيا التي نشهدها اليوم. فمن ستة وثلاثين مليون فدّان كان مزروعاً منه ثلاثين مليون فدّان أو معمور. وبعد ذلك في الزمان الذي عشته أنا قبل قرابة نصف قرن، أي أيّام جمال عبد الناصر، كتبوا في الصحف والمجلاّت ونقلوه في الإذاعات، أنّ جمال عبد الناصر قد صنع السدّ العالي بمبالغ ضخمة وباهضة. وكان نتيجة السدّ العالي بعد تلك المبالغ الضخمة والباهضة التي صرفت على السدّ، كتبوا أنّ المزروع من أرض مصر بلغ إلى سبعة ملايين فدّان وكذا ألف فدّان، أي أقل من ثمانية مليون فدّان. وقيل أنّ الشعب المصري حينها كان قرابة خمسين مليون نسمة. ويعني أنّ الأيادي العاملة كانت خمسين مليون إنسان، وكانت التكنولوجيا الخاصّة بالزراعة موجودة وكذلك الآلات الحديثة التي تعمل عمل أكثر من ألف إنسان. ولكن قبل ألف سنة، لم تك نسمة الشعب المصري خمسين مليون إنسان، ولعلّه كانت خمسة مليون إنسان. فإذا أردنا أن نحسب خمسة ملايين من البشر يعيشون على ستة وثلاثين مليون فدّان، والأيادي هي التي تعمل فقط في العمارة والزراعة وفي غيرها من أنواع إحياء الأراضي وإعمار الأرض، لكان المزروع من أرض مصر ثلاثين مليون فدّان. وعندما كان الشعب المصري عشرة أضعاف خمسة ملايين، أي خمسين مليون، مع مساعدة التكنولوجيا والماكنات والكهرباء، لم يصل مع السدّ العالي، المزروع من أرض مصر أو المعمّر منها، إلى ثمانية مليون فدّان.

بها يتغيّر العالم

إنّ الفرق الذي ذكرناه بخصوص الزراعة والإعمار في مصر، هو في عدم تطبيق المادّة القانونية التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي (من أحيى أرضاً ميتة فهي له). فهذا حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وآله. وهذه هي من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، التي أعلن الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يسير بها قبل أن يأتي إلى كربلاء المقدّسة في وصيّته المعروفة. ومن تلك السيرتين المباركتين هي المادة القانونية المذكورة. ولو يعمل بهذه المادة القانونية وحدها كما عمل بها في سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، لتغيّرت الأرض عما هي عليه الآن، ولتغيّر العالم. وهذه واحدة من الألوف من المواد الحضارية في سيرة النبي والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما.

حضارة الإسلام وادّعاء الغرب

علينا نحن المسملين أن نعرض المواد الحضارية في الإسلام، ومنها المادّة التي ذكرناها أعلاه، على عالم اليوم، ليعلم بأن الحضارة المعاصرة هي دون حضارة الإسلام. وحتى يتعلّموا من حضارة الإسلام، ومن سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما التي كان يريد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييهما. فالغربيون الذين يبجّحون بالحضارة، وعندهم الحضارة، ويتبجّحون بتوسعة الزراعة والعمارة والبناء وعندهم بعض ذلك، لكنه لا يبلغ ما عندهم اليوم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله.

بها ينمو الاقتصاد

إنّ أيّة حكومة على وجه الأرض اليوم، وفي أيّة نقطة من العالم، سواء في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، وصغيرة كانت أو كبيرة، إذا أعلنت اتّباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله، وأخذاً بسيرته فيما يخصّ الأرض وإعمارها، وصارت الحكومة تدير الأمور فقط، وتكون مجرّد مراقبة وناظرة حتى لا يظلم أحد أحداً ولا يعتدي أحد على أحد، ودعت الناس أو الأفراد يحجرون ويحدّدون عدّة هكتارات من الأرض ويعمرّوها ويزروعها ويبنوها، ولا حقّ لأحد أن يزاحمهم فيها، فخلال سنوات سترى النمو الاقتصادي في بلد تلك الحكومة، وعمل الأيادي العاملة، ويصبح المناخ صحيّاً، بسبب زراعة الأرض، أكثر وأفضل وأحسن، ومن جهات عديدة.

قبل سنوات، قرأت في صحيفة لبعض البلاد الإسلامية، أن نفوس ذلك البلد ستون مليون، وأنّ فلان الوزير ذكر أنّه عندهم أكثر من أربعين مليون هكتار صحراء، أي أرضي موات، وأراضي غير مزروعة وغير معمورة. فلو يعمل بالمادّة القانونية من رسول الله صلى الله عليه وآله (من أحيى أرضاً ميتة فهي له) ويسمحوا بالعمل في تلك المساحات من الأرض، أي تزرع وتعمّر، فخلال قرابة عشر أو عشرين سنة، ستكون نقطة حضارية مهمّة لا نظير لها حتى في تاريخ اليوم، وحتى عالم اليوم، وحتى في أكثر دول العالم حضارة.

سعادة للبشر وللحيوان!

بلى، إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، بقوله (وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه) قد أشار إلى سيرة توجب السعادة في الدنيا والآخرة، وتوجب السعادة للبشر وللحيوان، وتوجب السعادة للمسلم وغير المسلم. فعلى المسلمين، وخصوصاً الشباب المثقّف الواعي الناهض، أن يقرؤوا وباتقان نقاط الحضارة في الإسلام ويقارنوا بينها وبين الحضارة الموجودة اليوم أو المسماة بالحضارة، ويعلنوا ذلك للعالم كلّه، الإسلامي وغير الإسلامي، حتى ينجو العالم من المشاكل الكبيرة والكثيرة والمسيطرة على كل نقاط العالم.

أسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق للجميع في ذلك. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٤، الصفحة ٣٢٩.

(2) وسائل الشيعة: ج 25 ص413.