LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: هنا الإنسانية
رمز 53133
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 21 محرّم الحرام 1447 - 17 يوليو 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد بيّن مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه الهدف من قيامه ضدّ يزيد بن معاوية، في وصيته التي كتبها، ومنها العبارة المهمّة التالية: (أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه)(1).

الإنسانية في السيرة النبويّة

إنّ لسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه جوانب عديدة، منها الإنسانية المتجلّية في المئات والمئات من أقوالهما وفي أفعالهما وفي تقريراتهما. والإنسانية هي الأساس والأصل في سيرتهما صلوات الله عليهما وآلهما، في جميع المجالات، ولو جمعت لكان ذلك بنفسه كتاباً كبيراً. ومن ذلك مسألة الماء في الحروب.

تستباح عادة في الحروب الدماء والأعراض والأموال وكل شيء، ولكن لا يستباح في سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما الإنسانيتين أي شيء إلاّ بمقدار الدفاع فقط وحسب. وهذا ما أثبته التاريخ عنهما في المئات من الموارد. ففي بعض الحروب الدفاعية التي فرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله بسبب خيانة اليهود ونقضهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ونقض عهدهم معه، تمّ محاصرة اليهود، فجاء أحد من المسلمين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله، وقال يارسول الله أنا أعرف عين ومصدر الماء التي تدرّ على اليهود في قلعتهم، وهي تحت الأرض ويجري الماء منها إلى القلعة، فإذا أجزت لي أسدّ الماء عنهم وأقطعه، حتى لا يذهب إلى قلعتهم، وسيستسلمون بلا شكّ، ويتحقّق النصر الإلهي بهذا الأمر. ولكن رفض رسول الله صلى الله عليه وآله قطع الماء عن اليهود، لأنّه قبل كل شيء هو رسول الإنسانية، وقطع الماء ينافي الإنسانية وغير إنساني، حتى لو كانت حرباً ومفروضة ولأجل الدفاع. وإذا بحثنا في تاريخ الحروب قبل الإسلام وبعده، وفي الحروب التي قادها من سمّوا أنفسهم بخلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، نجد العديد من أمثال الخلق اللاإنساني، وهو قطع الماء. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأذن بقطع الماء عن اليهود حتى وإن كلّفه ما كلّفه، وقد كلّفه ما كلّفه من المتاعب في هذا المجال. وهذه هي السيرة الإنسانية لرسول الله صلى الله عليه وآله التي كان يريد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييها في المجتمع الإسلامي وفي المجتمع غير الإسلامي. فابحثوا في التاريخ، فهل تجدون نظيراً لذلك، في غير رسول الله وغير الإمام أمير المؤمنين وغير الإمام الحسين وغير الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين؟ وغير الذين تبعوا المعصومين صلوات الله عليهم متابعة جدّ وليس متابعة اسم فقط؟

إنسانية السيرة العلوية

كذلك نأتي إلى سيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في المجال المذكور، أي في الحرب التي فرضت عليه في صفّين. فقد جاء الإمام مع أصحابه إلى صفين وكان معاوية وأصحابه قد سبقهم على الماء واحتكروه. وأمر معاوية بأن لا تعطى حتى قطرة واحدة من الماء لأصحاب الإمام وأن لا يسمحوا لهم بالأخذ من الماء. فمعاوية هو الذي فرض الحرب وجاء لها وهو بدأ بها وهو الذي نقض الإمامة الشرعية الإلهية والإجماعية من المسلمين لأمير المؤمنين صلوات الله عليه، فما ربط الماء بالحرب؟ فأمر الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه أصحابه أن يهجموا على الماء ويفرقوا أصحاب معاوية عن الماء ويسيّطروا عليه. فحمل أصحاب الإمام وفر أصحاب معاوية وسيطر أصحاب الإمام على الماء. وإنطلاقاً من قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(2) الذي هو ترخيص إلهي على من يبدأ الاعتداء، جاء بعض أصحاب الإمام وأرادوا أن يقابلوا بالمثل وطلبوا من الإمام أن يسمح لهم بقطع الماء عن معاوية وجيشه. ولكن الإمام علي صلوات الله عليه رجل الإنسانية وإمامها، وحكومته حكومة إنسانية قبل كل شيء، وإنسانية الخلفية وإنسانية الجذور، بل كلّها إنسانية، لم يأذن لأحد من أصحابه أن يحولوا دون الماء وأصحاب معاوية، وقال دعوهم يأخذوا الماء، فليس لنا حرب على الماء، بل جئنا للحرب دفاعاً، وهؤلاء يبدؤون الحرب ظلماً وعدواناً، ونحن ندافع عن أنفسنا. فأي منطق يقول لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه بأن أعطي الماء لمعاوية وأصحابه الذين وقبل ساعة كانوا قد قطعوا الماء ومنعوه عن الإمام وأصحابه؟ أليس هذا منطق الإنسانية؟ وهذه هي السيرة التي كان يريد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييها، وهي السيرة التي ماتت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله باستثناء فترة حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فيا أيّها الشباب من المسلمين وغير المسلمين، ادرسوا التاريخ ونبشّوا في تاريخ الحروب لتعرفوا ذلك أكثر وأكثر.

مهمّة الحكومة الإسلامية

جدير به أن أذكره لكم، وهو أنّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه عندما دخل الكوفة أيّام إمامته، خطب خطبة شرح فيها الهدف من حكومته. ومما قاله صلوات الله عليه في خطبته: (فَيَأْمَنَ اَلْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ)(3) يعني يوجد لهم الأمن. ويعني من قوله أيضاً: أنا أحكم حتى أوفّر الأمن للجميع، وللمظلومين من عباد الله. فالمظلومون عادة هم الضعفاء، والظالمون هم الأقوياء باعتبار الوساطات والأموال التي عندهم والشيطنة، فربما يؤمّنون لأنفسهم الأمن. وأما كيف يحصل المظلومون والضعفاء على الأمن؟ فإنّ الإمام صلوات الله عليه يقول ويبيّن بأنّ الهدف من حكومته أن يأمن المظلومون من عباد الله. ويعني كل فرد يبيت في بيته بأمن. وهذه هي السياسة الإنسانية، وهذه هي الإنسانية.

حكومات الرعب والقتل

في أي حكومة على وجه الأرض، اليوم وقبله، وكذلك في الحكومات التي كانت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، باستثناء حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، تجد أنّ الأمّة والمظلومون من عباد الله فيها كانوا يأمنون وينامون في بيوتهم بأمن؟ بل وأين الأمن في الحكومات؟ فالحكومات التي حكمت باسم الإسلام قبل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبعده، في أيّام بني أميّة وبني العباس وغيرهما، هل يستطيع أحد أن يقول بأنّ الذين كانوا يعيشون في حكوماتهم كانوا بأمن؟ فهل الذين كانوا تحت حكومة معاوية بن أبي سفيان كانوا يأمنون على أنفسهم وكانوا في أمن؟ وكذلك الذين كانوا تحت حكومة يزيد؟ فمن يأمن في حكومة معاوية عندما يأمر بقتل وهدم وحرق أكثر من ثلاثين ألف من المسلمين والمسلمات، والصغار والكبار، وخلال أيّام؟ فلا يأمن إلاّ حاشيته ومن يؤيّد سلطان معاوية. وهل في حكومة يزيد من استراح من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات؟

من إنسانية النهضة الحسينية

نأتي إلى سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه نفسه. ففي طريقه إلى كربلاء، واجهه الحر وألف فارس كانوا معه، ومنعوا الإمام من أن يعود إلى مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنعوه من أن يذهب إلى حيث ما يريد، وحاصروا الإمام. ومع ذلك، رأى الإمام الحسين صلوات الله عليه الحر وأصحابه عطاشا، فأمر بسقيهم الماء جميعاً. فمن من البشر يعطي الماء للعدو وهو في الصحراء ويميته العطش؟ وهذه سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما التي كان يريد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييها. وعندما سنحت للإمام الفرصة أحياها في تعامله مع الحر وجيشه. وهذه هي الإنسانية في سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه الموروثة من سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. فأمر الإمام الحسين صلوات الله عليه أصحابه بأن يعطوا الماء للحر ولأصحابه وقال رشّفوا الخيل ترشيفاً أيضاً بعد سقيها الماء، أي رشّوا الماء على أبدان الخيل لأنّها أصابها الحر والظمأ. بل إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه قد رأى شخصاً من جيش الحر، أنّه من شدّة العطش كان لا يستطيع أن يشرب الماء، حيث كان الماء يسيل من أطراف فمه. فنزل الإمام صلوات الله عليه وبيده الكريمة أخذ القربة وجعل يروي ذلك الشخص من الماء. وأين توجد مثل هذه السيرة في التاريخ؟ فابحثوا في تاريخ الألوف من الحكّام، والألوف من الحكومات، قبل الإسلام وبعده، فهل تجدون نظائر لذلك؟ والجواب كلا ومع شديد الأسف؟

ديدنهم عدم الرحمة

لكن وكما يذكر التاريخ، لما صار يوم عاشوراء، قام الأعداء، وكان فيهم بعض الذين سقاهم الإمام الحسين صلوات الله عليه الماء وأرواهم ورشّف خيولهم، باستثناء الحر الذي انضمّ مع عدد قليل إلى الإمام، قاموا بقطع الماء عن الإمام حتى اضطرّ صلوات الله عليه على أن يحمل الطفل الرضيع الذي كان يهلك من العطش على يده الكريمة وطلب من الأعداء أن يأخذوا الطفل ويشربوه الماء حتى لا يموت من العطش، فأبوا حتى من هذا الفعل، وبأمر من عمر بن سعد، رمى حرملة بن كاهل الطفل الرضيع العطشان وذبحه وهو عطشاناً. وكان الإمام الحسين صلوات الله عليه يريد أن يحيي سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، وأن تموت السيرة التي تأبى عن إعطاء حتى قطرات من الماء لطفل رضيع عطشان.

مبتنيتان على الإنسانية

إنّ سيرتي النبي الكريم والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما التي بيّن الإمام الحسين صلوات الله عليه بأنّه يريد أن يسير بهما، كانتا مبتنيتان على الإنسانية في جميع أبعادهما. وما ذكرناه عن تلك السيرتين هي نماذج وأمثلة من المئات والمئات من النماذج والأمثلة. فعلينا نحن المسلمين، وخصوصاً الشباب الأعزّة، أن نجمع هذه النماذج من سيرة رسول الله وسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ونعرضها على العالم. ففي عالم اليوم، نرى كل أمّة وكل جماعة وكل دين وكل مذهب، يعرضون أفكارهم وأديانهم ومذاهبهم وما عندهم على العالم. ومن الفرائض التي علينا نحن المسلمين في هذه الدنيا المعاصرة أن نعرض سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما إلى العالم أيضاً، حتى يستفيد البشر، اليوم وغداً، من تلك السيرتين، سواء في العالم الإسلامي والعالم غير الإسلامي. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٤، الصفحة ٣٢٩.

(2)سورة البقرة: الآية 194.

(3)نهج البلاغة: باب الخطب: الخطبة رقم 131.